مغامرة شتوية من مذكراتي " حقيبتي.. طائر أزرق"
أقدام موحلة
استمرت البدايات تحمل لي مفاجئاتها, وترميني في خضم نشاطات كبيرة تفوق إمكاناتي وتسبق خبرتي الكشفية المتواضعة..وكأن قدري الكشفي كان يتربص لي, ويغريني بكل ما لديه من سحر وجاذبية. كأنه كان يفرش في طريقي أقوى ما عنده من صمغ لالتصق بها أكثر فأكثر… تجلى بأنشطة نوعية مميزة ..لا يمكن أن تترك في قلبٍ متلهفٍ مندهشٍ أمام ما يكتشفه كل يوم من مزاياها .. إلا مساحة عظيمة من الإيمان, وتبعية دون أدنى مقاومة لسحرها العظيم.
لم يكن قد مضى على انتسابي إلى الفرقة الأولى في الفوج الثاني, أكثر من أسبوعين أو ثلاث ..عندما أعلن قائدها عن القيام برحلة إلى منطقة (صلنفة ) سيراً على الأقدام .. رحلة مسير إلى المصيف الجبلي البارد الذي يبعد عن المدينة كما تعلمون أكثر من خمسين كلم. وفي شهر كانون أول أو شباط .. ( فبراير.) ولكي تكتمل عناصر المغامرة والتشويق جاء موعد انطلاق الرحلة ..مع بداية الليل الشتوي الطويل .. ويمتد مسيرها إلى فجر اليوم التالي .. رحلة ليلية في جو شتوي ممطر وبرد قارس .. وفي طريق جبلي صاعدة تمتد إلى اللانهاية .. فتصور يرعاك الله .
كانت الرحلة شاقة مجهدة بكل ما تحمل الكلمة من معان ..جوانب الطريق الموحلة المغطاة بالأعشاب المبللة, وبقع المياه التي تركتها أمطار النهار,كانت كمحبرة تغوص أقدامنا في حبرها الطيني اللزج, لتترك آثارها نقشاً على سواد الطريق الطويل الممتد إلى اللانهاية ..والليل الحالك, ينسج المزيد من الأجواء السحرية الغريبة..ويصور لنا أشباحاً مبهمة تتراقص وراء أغصان الأشجار التي تتمايل مع هبات الريح ..فتظهر وتختفي هنا وهناك.. بتأثير أنوار سيارة عابرة بين فترة وأخرى ..والبرد يزيد من صعوبة المهمة و قسوتها, ويجعلها أكثر قرباً من المهمة المستحيلة .
لكننا رغم كل الصعوبات ..كنا نمضي بثقة وعزيمة ..وبفرح ومتعة, لا تتسع لها مساحات الحقول الممتدة في كل اتجاه.. أناشيدنا وصيحاتنا وأغانينا ..كانت بلسماً يداوي التعب الذي بدأ يتسلل إلى أقدامنا , تلك التي صارت تتحرك بشكل آلي, دون سيطرة لنا عليها .. كنا نمشي ساعة أو أكثر, لنستريح قليلاً ونلتقط ما تبقى من أنفاس في صدورنا .
ومع أضواء الفجر الأولى بلغنا مشارف ( الحفة) البلدة التي تقع في منتصف المسافة إلى الهدف البعيد.
ورغم الإرهاق والتعب.. حمَلَتنا قدرة مبدع السماوات والأرض ,على جناح من الغيم ورذاذ الحقول الندية.. ليبهر أبصارنا بمنظر الألوان التي بدأت تظهر وتتهادى, ,من خلال الغيوم التي تتشكل بصور لا نهائية من المساحات والألوان, وتلتف كموجة عظيمة من الظلال المتدرجة.. المتغيرة كل لحظة. متناغمة مع النور المتدفق بسحر رائع من مصباح الكون العظيم, الذي بدأ رحلته السرمدية . كنا نرقب بإجلال وانبهار.. مشهد ميلاد يوم كوني جديد .
دخلنا البلدة الجبلية بعيد الفجر الذي يلف بسكونه شوارعها وبيوتها. لم يكن فيها من مظاهر الحياة, سوى أضواء خافتة, تنبعث من مقهى صغير في ساحتها ..كان عامل المقهى ,لا يزال يرش أرضها بالماء تمهيداً لكنسها .. عندما ارتمينا مجموعة من بقايا فتية ..أكل الدرب الطويل كل حيويتهم ونشاطهم.ولم يبقِ لهم سوى ذكرى عزيمة كان يشتعل لهيبها قبيل البدء بهذا المسير القاتل .
تجمعنا كومة من اللحم البارد ,حول المدفأة التي كانت ألسنة لهيبها تغزل معطفاً من خيوط الدفء ,يحاول أن يرتمي دون أن تنجح محاولته .. على أكتاف المكان الصغير.
بعد استراحة حوالي نصف ساعة حسبناها لمحة أو طرفة عين . دعانا القائد إلى متابعة المسير .. وكان قد لاحظ ما نالنا من تعب, وما أصابنا من إرهاق..فأشفق علينا وربما على نفسه أيضاً .. جمعنا عند مشارف البلدة, في أول الطريق المغادر إلى (صلنفة ) وقال :
- ما رأيكم أن نقسم الرحلة إلى جزأين .. فنعتبر أننا حققنا الجزء الأول بالوصول إلى هنا … ونكمل ما تبقى من المسافة بوسيلة نقل عابرة . وأعدكم أن نعود في رحلة أخرى لنتم الجزء المتبقي إلى النهاية…
وبصوت واحد حمل كل ما تبقى من عزيمة متهالكة, فشل الشاي الساخن في المقهى في إشعالها من جديد .. صحنا : .. موافقون ..موافقون قائد.
أقدام موحلة
استمرت البدايات تحمل لي مفاجئاتها, وترميني في خضم نشاطات كبيرة تفوق إمكاناتي وتسبق خبرتي الكشفية المتواضعة..وكأن قدري الكشفي كان يتربص لي, ويغريني بكل ما لديه من سحر وجاذبية. كأنه كان يفرش في طريقي أقوى ما عنده من صمغ لالتصق بها أكثر فأكثر… تجلى بأنشطة نوعية مميزة ..لا يمكن أن تترك في قلبٍ متلهفٍ مندهشٍ أمام ما يكتشفه كل يوم من مزاياها .. إلا مساحة عظيمة من الإيمان, وتبعية دون أدنى مقاومة لسحرها العظيم.
لم يكن قد مضى على انتسابي إلى الفرقة الأولى في الفوج الثاني, أكثر من أسبوعين أو ثلاث ..عندما أعلن قائدها عن القيام برحلة إلى منطقة (صلنفة ) سيراً على الأقدام .. رحلة مسير إلى المصيف الجبلي البارد الذي يبعد عن المدينة كما تعلمون أكثر من خمسين كلم. وفي شهر كانون أول أو شباط .. ( فبراير.) ولكي تكتمل عناصر المغامرة والتشويق جاء موعد انطلاق الرحلة ..مع بداية الليل الشتوي الطويل .. ويمتد مسيرها إلى فجر اليوم التالي .. رحلة ليلية في جو شتوي ممطر وبرد قارس .. وفي طريق جبلي صاعدة تمتد إلى اللانهاية .. فتصور يرعاك الله .
كانت الرحلة شاقة مجهدة بكل ما تحمل الكلمة من معان ..جوانب الطريق الموحلة المغطاة بالأعشاب المبللة, وبقع المياه التي تركتها أمطار النهار,كانت كمحبرة تغوص أقدامنا في حبرها الطيني اللزج, لتترك آثارها نقشاً على سواد الطريق الطويل الممتد إلى اللانهاية ..والليل الحالك, ينسج المزيد من الأجواء السحرية الغريبة..ويصور لنا أشباحاً مبهمة تتراقص وراء أغصان الأشجار التي تتمايل مع هبات الريح ..فتظهر وتختفي هنا وهناك.. بتأثير أنوار سيارة عابرة بين فترة وأخرى ..والبرد يزيد من صعوبة المهمة و قسوتها, ويجعلها أكثر قرباً من المهمة المستحيلة .
لكننا رغم كل الصعوبات ..كنا نمضي بثقة وعزيمة ..وبفرح ومتعة, لا تتسع لها مساحات الحقول الممتدة في كل اتجاه.. أناشيدنا وصيحاتنا وأغانينا ..كانت بلسماً يداوي التعب الذي بدأ يتسلل إلى أقدامنا , تلك التي صارت تتحرك بشكل آلي, دون سيطرة لنا عليها .. كنا نمشي ساعة أو أكثر, لنستريح قليلاً ونلتقط ما تبقى من أنفاس في صدورنا .
ومع أضواء الفجر الأولى بلغنا مشارف ( الحفة) البلدة التي تقع في منتصف المسافة إلى الهدف البعيد.
ورغم الإرهاق والتعب.. حمَلَتنا قدرة مبدع السماوات والأرض ,على جناح من الغيم ورذاذ الحقول الندية.. ليبهر أبصارنا بمنظر الألوان التي بدأت تظهر وتتهادى, ,من خلال الغيوم التي تتشكل بصور لا نهائية من المساحات والألوان, وتلتف كموجة عظيمة من الظلال المتدرجة.. المتغيرة كل لحظة. متناغمة مع النور المتدفق بسحر رائع من مصباح الكون العظيم, الذي بدأ رحلته السرمدية . كنا نرقب بإجلال وانبهار.. مشهد ميلاد يوم كوني جديد .
دخلنا البلدة الجبلية بعيد الفجر الذي يلف بسكونه شوارعها وبيوتها. لم يكن فيها من مظاهر الحياة, سوى أضواء خافتة, تنبعث من مقهى صغير في ساحتها ..كان عامل المقهى ,لا يزال يرش أرضها بالماء تمهيداً لكنسها .. عندما ارتمينا مجموعة من بقايا فتية ..أكل الدرب الطويل كل حيويتهم ونشاطهم.ولم يبقِ لهم سوى ذكرى عزيمة كان يشتعل لهيبها قبيل البدء بهذا المسير القاتل .
تجمعنا كومة من اللحم البارد ,حول المدفأة التي كانت ألسنة لهيبها تغزل معطفاً من خيوط الدفء ,يحاول أن يرتمي دون أن تنجح محاولته .. على أكتاف المكان الصغير.
بعد استراحة حوالي نصف ساعة حسبناها لمحة أو طرفة عين . دعانا القائد إلى متابعة المسير .. وكان قد لاحظ ما نالنا من تعب, وما أصابنا من إرهاق..فأشفق علينا وربما على نفسه أيضاً .. جمعنا عند مشارف البلدة, في أول الطريق المغادر إلى (صلنفة ) وقال :
- ما رأيكم أن نقسم الرحلة إلى جزأين .. فنعتبر أننا حققنا الجزء الأول بالوصول إلى هنا … ونكمل ما تبقى من المسافة بوسيلة نقل عابرة . وأعدكم أن نعود في رحلة أخرى لنتم الجزء المتبقي إلى النهاية…
وبصوت واحد حمل كل ما تبقى من عزيمة متهالكة, فشل الشاي الساخن في المقهى في إشعالها من جديد .. صحنا : .. موافقون ..موافقون قائد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق