الأحد، 22 نوفمبر 2015

"الرحلة العظمى" ..بقلم القائد رامي منزلجي



( مقتطفات من مذكراتي : "حقيبتي ..طائر أزرق "
ركبنا السيارة القديمة.. التي توجهت بنا نحو الطريق الصاعدة باتجاه جبال اللاذقية قرب قرية (اصطامو) . وبناءاً على طلبنا ..تركنا الصديق عند مشارف قرية (عين جندل ) . ودعنا هناك وعاد أدراجه .
أما نحن فقد بدأنا نتلمس طريقنا نحو الغابة الصغيرة التي كانت أمامنا ..وكان الوقت قد بدأ يتجه نحو المساء والرؤية تصبح أكثر صعوبة ..وشيئاً فشيئاً ما لبثت أن تحولت كل ألوان الطبيعة الرائعة إلى اللون الأسود ..بعد أن مالت الشمس خلف الجبل الذي يحمل على ظهره أطلال قلعة قديمة, أعطت القرية المجاورة, اسمها التاريخي (قلعة المهيلبة ). 

تقاسمنا حمل المعدات ..فكان نصيب كل منا حقيبته الظهرية ..التي تحوي أغراضه الشخصية إضافة لبعض الأغراض المشتركة مثل المعلبات و أدوات التخييم والطبخ. أما عريف الطليعة ..القائد مروان ..فقد كان يحمل الخيمة الصغيرة الملفوفة داخل غطاء برتقالي على ظهره وكأنها حقيبة ظهر ..يتدلى منها بعض الأوتاد والحبال.
دخلنا مساءاً.. الغابة الصغيرة التي تتشابك في سمائها أغصان أشجار الصنوبر الكثيفة .. وانتقينا فسحة صغيرة تمكنا من رؤيتها على ضوء الفانوس الخافت .. نصبنا خيمتنا الصغيرة .. وتكومنا داخلها ..ونمنا ليلتنا الأولى ..أو حاولنا على الأقل أن ننام ..كانت الأرض المليئة بالحجارة الصغيرة تحتنا ..حريصة على أن تبقي أعيننا مفتوحة.. وكلما تقلب أحدنا في محاولة للتخلص من نتوء في الأرض يصر على أن يذكر بوجوده.شاركه نزلاء الخيمة الصغيرة حركته الانقلابية تلك. مكرهون لا أبطال .
استيقظنا باكراً جداً ..مع أول شعاع ضوء ..على صوت حركة وضحكة أشبه بالزغاريد . كان معتوه القرية يراقبنا باستغراب واضعاً طرف ثوبه في فمه ..يمد رقبته الطويلة ثم يخفيها وراء شجرة .
من هؤلاء المجانين, الذين خرجوا من هذا البيت القماشي البرتقالي اللون ؟.. ماذا يفعلون هنا في منطقة نفوذه ومملكته ؟ .. كان ينظر إلينا ببلاهة ظاهرة .. مطلقاً كل بضعة دقائق ..ضحكة مجنونة.. يرافقها بهز جسمه وذراعيه الطويلين. نظرنا حولنا ..وسرعان ما اكتشفنا بأننا قضينا ليلتنا في وسط مقبرة القرية.
كان مجرد حمل فانوس الكاز الزجاجي ...الذي أحضره القائد (مروان) عندما فشل أو تهاون في إيجاد الفانوس المعدني المخصص للرحلات. مسألة مربكة ومزعجة ,وتحتاج إلى الكثير من الحذر والمداراة ,كي لا تنكسر زجاجته الحساسة جداً.وكنا نتبادل احتضانه المزعج,وإبقاءه في وضعية أفقية كي لا يتسرب منه الكاز .. حتى وصلنا إلى ساعة كرهنا فيها هذه الحالة..و لم يعد أحد يرضى بحمله. فحاولنا استبداله بفانوس من طراز آخر من دكان القرية .وعندما فشلنا في إيجاد ضالتنا المنشودة في الحصول على الفانوس السحري .. ..قررنا بيعه لصاحب الدكان ,الذي استغل حالتنا وكرهنا الظاهر للفانوس اللعين .. محققاً صفقة العمر ..وكان أفضل عرض قدمه لنا هو كيس صغير من بذور دوار الشمس الرخيص . حملنا صفقتنا الخاسرة ,وتوجهنا من جديد صوب الطريق الذي يتابع صعوده نحو الجبال الشرقية.
استقبلتنا فور وصولنا,مجموعة من شباب القرية .. رحبوا بنا ورافقونا إلى بيت المختار, الذي كنا نحمل له رسالة توصية من أحد أصدقائه في المدينة .. بدوره رحب بنا بحرارة وعرض استضافتنا في بيته .شكرنا كرم المختار. وأخبرناه أننا نحمل بيتنا معنا ولا نرغب أن نزعج أحداً بوجودنا .
تناولنا طعام العشاء على مائدة المختار ..و حمّلنا وعاءاً معدنياً كبيراً مملوءاً بالتفاح الأخضر الرائع .. ثم رافقتنا مجموعة الشباب, نحو منطقة مرتفعة ,في طرف القرية , تطل على السهل العظيم ..والقرية تستلقي على كتف الجبل الذي يحيطه .. قمنا بنصب خيمتنا الصغيرة, في فسحة قرب شجرة بلوط عظيمة الحجم .. وبقي الشباب الذين رافقونا ملتصقين بنا ..مصرين على قضاء السهرة معنا.
بداية ..تبادلنا معهم أحاديث منوعة ثم ..بدأنا على مضض.. الأحاديث المصطنعة المملة التي يتبادلها الغرباء في حالات يجبرون فيها على ممارسة النفاق الاجتماعي ..بعدها بدأ الشباب برواية الطرف ..وأذكر أن كل الطرف التي رووها كانت قديمة سازجة..نسيناها منذ أيام الطفولة . إلا أننا كنا نصغي إليها باهتمام و نتصنع الضحك والإعجاب .. إلى أن روى القائد( مروان) وهو سيد الفكاهة ورواية الطرائف والنكات .. روى طرفة ..فقاطعه أحد الشبان قائلاً : (قديمة أستاذ ..نعرفها من زمان) .. كانت هذه الحركة كافية لقلب ظهر المجن ,و التذرع بالنعاس والتعب ..وإنهاء سهرة التعذيب التي فرضت علينا ..كنا ننتظر الفرصة المناسبة لإعلان الثورة والعصيان والكفاح المرير .. للتحرر من نير ضيوفنا الثقلاء.
في صباح اليوم التالي تابعنا سيرنا نحو الشمال باتجاه قرية ( ليفين) . وصلنا في سيرنا إلى منطقة يشكل فيها الطريق قوساً عملاقاً يمر حول وادٍ عميق .. وكنا نشاهد الطرف الآخر من الطريق عبر المنحدر العظيم .. كان يبدو قريباً بعكس المحنى الكبير.. الذي سيجعلنا نلتف مع الطريق التي تدور حول الوادي كله .. فكرنا قليلاً..وترددنا .. ثم قررنا النزول عبر الوادي لنختصر المسافة الدائرية كلها ..وهنا كانت خطيئة البشرية القاتلة .
الشجيرات ذات الأغصان القاسية المتشابكة ..والنباتات الكبيرة ذات الطبيعة الشوكية ..كانت تأكل بنهم من لحم أرجلنا ..وتترك آثارها عميقاً حول حقائب الظهر التي تثقل كاهلنا ..كان المنحدر يميل أحياناً بشكل مقبول ثم ما يلبث أن يتحول ميله إلى زاوية شبه قائمة ..تجعل أي خطوة نخطوها أقرب للقفز في المجهول .. .. تابعنا نزولنا المنحدر الرهيب, حتى وصلنا قريباً من قعر الوادي الكبير ..ثم جاءت المرحلة الأصعب .. التسلق للصعود نحو القمة من جديد ..
وهنا أترك للقارئ الكريم مجالاً لتصور الوضع الذي نحن فيه .. قعر وادٍ لم تطأه قدم إنسان ..وشجيرات متوحشة تتمترس في طريقنا ..وأحجار وصخور متعددة الأحجام والأشكال يبدو جزء منها ويختفي آخر هنا وهناك ..كانت متكأً لنا لبداية الصعود من الهاوية ..ذلك الصعود الذي يبدو أنه لن ينتهي أبداً . كان الجهد العظيم والمشقة القاتلة ..التي بذلنا في هبوطنا نحو أسفل سافلين ,ومن ثم الصعود القاتل للخروج من الجحيم بعينه ..أظن أنه كان يكفي لندور حول الوادي لا مرة واحدة ..بل عشر مرات .
ها نحن مرميون قتلى على طرف الطريق ..نحاول جاهدين التقاط بقايا نفس قبل أن يغادر الصدر للمرة الأخيرة .. كانت عيوننا النصف مغلقة ..ترقب بهمٍ وقلقٍ بقية الطريق الصاعدة بقوة نحو المنعطف الذي يقع هناك عند القمة العالية .. وبينما نحن في هذه الحال ..وإذ برجل عجوز من أهل المنطقة يقود حمارين ..ويتجه بهما صعوداً .. مر من قربنا ..نظر إلينا باستغراب ونحن لا نزال مرميين على طرف الطريق .... ألقى علينا التحية بارتباك.. انتفضنا كمن لسعته أفعى ..وقد دارت فكرة واحدة في رؤوسنا مجتمعين ..صحنا: وعليكم السلام . ..وفي نفس اللحظة كنا نرمي حقائبنا وخيمتنا البرتقالية بما تبقى لنا من عزيمة على ظهري الحمارين ..ولم ننتظر قبول الرجل لفعلنا.. ولسان حالنا يجتر المثل القائل : ..يا راكب على الكر ..
حمل الحماران المسكينان أثقالنا .. وتابعنا سيرنا وراءهما .حتى نهاية الطريق الصاعدة..كانا المعجزة التي تحققت في زمن ندرت فيه المعجزات.
الطريق التي تبدأً بعد المعطف الواقع في أقصى ارتفاع المنطقة كانت تئن تحت عجلات الجرافات الضخمة التي تعمل على شق طريق جديد ..الأشجار التي تعترض مسرى الدرب الطويل كانت مقطوعة ومرمية على جانبيه ..لا أثر للنباتات والأعشاب والشجيرات التي تعطي للمنظر لونه الأخضر...كان كل شيء مكسواً بلون التراب الأصفر المائل للحمرة ..والحجارة الضخمة تملئ المكان. والدرب يبدو كحقل محروث تغوص أقدامنا في ترابه الهش. لم يكن لنا مهرب من عبور هذه الطريق الصعبة المزعجة.لأن وعورة المنطقة وارتفاعات التلال المجاورة, تجعل من المستحيل محاولة المرور عبرها.كان المنظر يبدو وكأنه نهر من التراب والصخور يخترق بحراً من الغابات والأدغال ..وكانت قافلتنا مجبرة على أن تمخر عبابه الكئيبة المغبرة .
استمر الدرب بوضعه هذا لمسافة طويلة جداً .. واستمرينا في سيرنا وكأننا تحولنا بقدرة عجيبة من مسير بين بحر من الغابات والأحراش ,إلى مسير في بادية من التراب والحجر والصخور. الشمس كانت تلسع جباهنا. وتسوطنا بحرارتها.. دون أن نستطع فعل شيء للهروب من طغيانها و سلطانها الظالم .
شربنا كل الماء الذي كان معنا ..ونحن نمني النفس بإيجاد نبع قريب ..وتحت وطأة حرارة وقت الظهيرة ومشقة الطريق . أظهر الجوع أنيابه الحادة وهددنا بافتراس سريع .
لجأنا إلى ظل نادر صنعته صخرة عظيمة مقتلعة و مرمية في طرف الطريق..دخلنا تحتها .وفتحنا بالخنجر .. علبة سمك سردين ..أكلناها مع بضعة أرغفة من خبز التنور الأسمر البارد ..كانت غدائنا القاتل .. سمك السردين ..والشمس التي تشوي جلودنا .والماء الذي لم نعد نعرفه إلا بالذاكرة ..والطريق المحروث الممتد إلى اللانهاية .. كانت الصورة تبدو وكأنها من معتقل للأشغال الشاقة المؤبدة .
ما كان لمأساتنا أن تنتهي لولا أن وصلنا منطقة انتهت فيها أعمال شق الطريق الجديد ..الذي كان وكأنه شق في صدورنا أو داخل أجسادنا. ارتمينا بشراهة ..على النبع الذي أرشدنا إليه أحد المارة مشيراً بيده أنه هناك على بعد رمية حجر .. وما كنا نعلم أن صاحبنا..هو حفيد شمشون الجبار.. إلا بعد أن وجدنا أن رميته امتدت بنا لمسير ساعة طويلة قاتلة .
أعاد الماء والظل شيئاً من الحياة لعروقنا التي جفت في هذا الجزء القاتل من هذه الرحلة .
انتقينا لنصب خيمتنا الصغيرة ..مكاناً قريباً من النبع وكأننا نخشى أن نقع مرة أخرى فريسة للعطش الظالم الذي بطش بنا . التف حولنا بعض الفتية والأولاد .. كنا حينها ضمن حدود القرية التي تسمى (البارد) .
كانت ( صلنفة ) نقطة النهاية المفترضة في هذه المغامرة الطويلة .. ترتفع عن المكان الذي نحن فيه قرابة المائة متر أو أكثر.
ومثل الحالة السابقة التي قادتنا إلى النزول في وادي الجحيم.. اختصاراً للالتفاف الذي يشكله الطريق .. وقعنا في شر أعمالنا مرة أخرى مخالفين المثل القائل:( لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين). فرغم أن إيماننا قضية مفروغ منها ..إلا أننا وقعنا في الفخ مرة أخرى .
كنا نقف في ( صلنفة التحتانية ) على طرف الطريق الذي يتلوى شرقاً وغرباً مشكلاً ما يشبه حركة (الزكزاك) ضمن مسافات تمتد لمئات الأمتار في اتجاهات متعاكسة ومتدرجة بالارتفاع . بينما يمتد أمامنا وبشكل مباشر, (بربخ) عظيم القطر لنقل المياه إلى المصيف ..يعبر المرتفع مباشرة . وبخط شبه مستقيم ..مختصراً مسافات كبيرة من الطريق الطويل الملتوي.
فعلها الشيطان معنا مرة أخرى, وأغرانا بحرق المراحل.والتهرب من دفع ضريبة النجاح والوصول إلى القمة ....هاهو المجد أمامكم فاطلبوه ..وافعلوا كما فعل الكثيرون ممن تبوؤوا مناصب لا يستحقونها ..ولم يبذلوا في سبيلها الجهد و التعب . ها هو النجاح.. ينتظركم في نهاية هذا "القسطل" المختصر .. تسلقوه بسرعة وتربعوا على قمته..كما تسلق المنافقون سلم النفاق.. ووصلوا بسرعة عظيمة إلى ما يردون .. لا داعي أبداً يا أحبتي لأن تدفعوا ثمناً غالياً ومتعباً للتفوق.وان تسلكوا الطريق السليم للوصول إليه.. فالشاطر من يتهرب من دفع الثمن .
قهقه الشيطان في سره وهو يرانا ننساق وراء وسوسته.. ونؤمن بمشورته القاتلة ..
وهكذا بدأنا بتسلق المرتفع الهائل مستعينين بالقواعد التي تثبّت قسطل الماء العظيم. المتجهة نحو الأعلى وكأنه يتجه نحو السماء .
منذ عام 1976تاريخ هذه المغامرة التي لا تنسى..و نحن لا نزال نذكر حتى اليوم ,وبعد مرور كل هذه السنوات,حجم المشقة والتعب, الذي تعرضنا له في صعودنا القاتل نحو القمة.. كانت الدرب الصاعدة طويلة..متعبة..مؤلمة..قاتلة .. مائلة بشكل مخيف ..درب وكأنها درب الآلام ..وكأننا كنا نحمل عبرها صليب خطيئة البشرية منذ بدأ الخليقة حتى اليوم .
دامت آلامنا وعذاباتنا لأكثر من ساعة .. وصلنا بعدها إلى نهاية القسطل اللعين ..كان حجم الخديعة التي وقعنا ضحيتها كبيراً ..بحيث لم يبق في جسدنا موضع شبر إلا وفيه طعنة شوكة أو ضربة حجر .. وها نحن أنصاف قتلى ..مستلقون على ظهورنا ..مرميون على طرف الطريق..الذي صار ضمن حدود المصيف الجميل.نسمع أو نكاد أصوات الموسيقا تأتينا من المقهى البعيد ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق